La Revue des Ressources

غـــــيث 

version originale en arabe de "Ghayth"

نيسان (أبريل) 2008, بقلم Nahidh Al Ramadani

كل اصدارات هذا المقال: [عربي] [français]

 

 

رغم ان كل علبة دخان تحمل تحذيرا واضحا يفيد أن التدخين مضر بالصحة ? وأن السيكارة قد تكون قاتلة . إلا أنه من الواضح أن أحدا لايحمل هذا التحذير المخيف على محمل الجد .

أما صاحبي بالذات فكان ينظر الى بسخرية مرة حينما أتحدث اليه في هذا الموضوع . سنوات .. سنوات طويلة ولم أفلح في جعله يقلع أو حتى يقلل من التدخين

أما ذلك اليوم .. كنا ذلك اليوم نجلس في حافلة صغيرة تسير بنا بسرعة منطلقة على الدرب المتعرج بين عمان والزرقاء . أخرج صاحبي علبة دخانه وفتحها ? سحبتها من يده بسرعة لكنه كان قد التقط سيكارة .. أراد أن يقول شيئا ما لكنه التفت بضيق الى نافذة السيارة . دسست العلبة في جيبي وأبقى هو السيكارة بين أصابعه دون أن يشعلها ...

قال لي معاتبا

- : هل تخشى على صحتهم ? أم لعلك لاتريد أن تؤذي مشاعرهم ?

-: عليناأن نتصرف بذوق .الاترى أن السيارة مقفلة ?

-: جميل .. لاتريد أن تؤذي أحاسيس أحد .. الا ترى أنهم جميعا يستمتعون بنهشنا ؟؟

-: من قال لك أنهم يستمتعون بنهشنا ؟؟ إنهم ينهشوننا فحسب .

-: ولماذا يفعلون ذلك ?!

-: لانهم جياع .

-: ولماذا لانفعل مثلهم نحن أيضا ؟؟

-: لاننا.. لاننا ضعفاء .

أدار وجهه ثانية الى الخارج . ما زلت أتذكر جيدا لقاءنا الاول . كنت في أيام إغترابي الاولى . كنت موشكا على التداعي . وكان مثلي .. يتداعى . التقينا في لحظة ما .. إتكا علي وإتكأت عليه . أصبحنا قوة نتجت عن ضعفين . قطعنا سنوات الغربة معا . أصبح ظلي واصبحت ظله . ومع هذا لم أكن أستطيع إقناعه بتغيير الكثير من أفكاره أو سلوكياته

-: هل تعتقد أننا سنعثر عليه . سألني

-: ربما .. علينا أن نتفاءل دائما . قلت له .

-: لقد قتلني تفاؤلك .. لا أدري من أين ينبع ? ألم تدرك بعد أن الحظ قد فارقنا منذ زمن بعيد.

-: كفى .. لاتجعل الاشياء تبدو أكثر قتامة مما هي عليه فعلا .

-: أنا ؟؟ أنا أجعل الاشياء أكثر قتامة ? أتحداك أن تريني بصيص ضوء واحد . الا تستطيع النظر حولك . الا ترى معي كل هذا العفن والفساد ؟؟ كل تلك القذارة ؟؟ كل ذلك التخلف . الا ترى سقوطنا السريع في هاوية لاقرار لها ؟؟

-: تفاءل .. تفاءل بالله عليك . ليس الامر بهذا السوء .

-: لاأريد أن أدفن رأسي في الرمال . كفى .. لم أعد أحتمل .. أريد أن .. أريد أن أتنفس

-: وتظن ان الهواء لا يوجد إلا هناك ؟؟ قد لاتستطيع التنفس هناك وأنت أمام حوض غسيل الصحون .

-: كفى .. أرجو أن تتوقف . إذا كنت غير مقتنع بالهجرة فلماذا سلكت معي كل تلك الدروب ؟؟

-: الفقر . الفقر في الوطن غربة . قلت له بالم

-: والفقر في الغربة ؟؟

- : الفقر في الغربة موت .. أجبت عن سؤاله ألمباغت

- : موت . قال والتفت ثانية ليتشاغل بالنظر الى الخارج

كنت قد رافقته خطوة خطوة في كل محاولاته .. زوارق مطاطية .. سفن مطارات .. هروب سيرا على الاقدام .. ست محاولات باءت كلها بالفشل . إمتلأت جوازات سفرنا بالاختام الحمراء .. تم إبعادنا عن أكثر من بلد . حتى إنتهى بنا المطاف في عمان . وهاهي ذي أيام إقامتنا توشك على النهاية . بعدها .. بعدها إما العودة الى العراق .. أو دفع غرامة لاطاقة لنا بها عن كل يوم إضافي . لم يعد أمامنا إلا أمل أخير . ألاستمرار في محاولة اللجوء الى دولة أجنبية . لم يكن حلا فحسب ? كان حلما .. كان حلم حياة بالنسبة لصاحبي .. أما أنا ..فكم كنت أكره ترك بلدي .. ولكن . هل لدي خيار اخر ?

-: أتعتقد أنه مضمون ? سألني بخوف .

- : سمعته طيبة . والطريق الذي يسلكه جديد . ويبدو مقنعا .

كنا قد مررنا بالكثير من التجارب الفاشلة . أصبحت لدينا خبرة جيدة في هذا الموضوع . وكلما ازدادت خبرتنا ازداد حرصنا . ووكلما ازداد حرصنا قلت فرص نجاحنا . كم كنا نتألم حينما نسمع عن شخص ساذج نجح ببساطة في الوصول الى دولة غربية . كان بعض أصحابنا يعبرون خلال أيام .. أما نحن . أنا وصاحبي .? فرغم أننا أصبحنا خبراء في هذا المجال الا أننا فشلنا في كل محاولاتنا . ولولا تساهل بعض رجال الشرطة أو فساد البعض الاخر لكنا أنا وصاحبي ننام على ارضية قذرة لاحد السجون .

-: كم كان الامر مختلفا .. لماذا نأتي متأخرين دائما ? قبل عشرين سنة كان الامر عاديا . وقبل عشر سنوات كان سهلا . وقبل خمس سنوات فقط كان الامر ممكنا . أما الان .. لماذا نصل متأخرين دائما ؟؟ لماذا ? سألني بمرارة

-: قبل عشرين سنة كنا أطفالا . وقبل عشر سنوات كنا في الجيش . وقبل خمس سنوات كنا نجمع المبلغ الذي سندفعه للمهرب.

-: أتحسبني أجهل ذلك ? ولكن شيئا ما يعرقلنا دائما . هل هو سوء الحظ ? هل نحن منحوسون ؟؟

لم أجبه . ولم يكن ينتظر مني إجابة . كانت الحافلة قد إقتربت كثيرا من الزرقاء . وكنا نبحث عن وكر مهرب (مضمون) وصفه لنا أكثر من صديق . ورغم أن مدخراتنا التي جمعناها بالكد والعرق تحت شموس الغربة كانت قد تلاشت هنا وهناك اثناء محاولاتنا المستميتة المتكررة ولم يعد معنا ما يكفي للقيام بمغامرة كهذه ? الا أننا لم نستطع أن نمنع أنفسنا من الاتصال بالرجل

نظر في عينيي طويلا . تنفس بعمق قبل أن يقول لي برجاء

- : هل تقرضني نقودك لارحل بها ? أنت تعرفني جيدا .. لن أخذلك أبدا .. ما إن أصل الى هناك حتى افعل المستحيل لسحبك معي . هذا وعد .. واقسم على ذلك بشرفي .

- : لم أجبه على سؤاله . ولو كنت قد طلبت منه نفس الطلب لما أجابني .فرغم علاقتنا المتينة إلا أن صداقة الغربة لاتثمر تضحية كهذه أبدا .. إزدادت كابته ولم يتكلم ثانية حتى توقفت الحافلة . نزل بسرعة وتبعته .

أخرج الولاعة من جيب بنطاله وسار عبر الشارع الضيق . سار ثلاث خطوات أو أربع ثم توقف . توقف ليشعل سيكارته .. ما زلت أذكر تلك اللحظات تماما . كان يمسك الولاعة بيمناه محيطا لهبها بيسراه . وحقيبته الصغيرة التي لايفارقها تتدلى من معصمه . أشعل سيكارته وسحب منها نفسا عميقا . أرجع رأسه للخلف وبدأ يزفر الدخان عاليا في الهواء . في تلك اللحظة . في تلك اللحظة تماما كانت شاحنة ضخمة تقطر خزان نفط قد ظهرت فجأة من أنعطافة تسبق المنحدر القصير الذي كنا نقف أسفله .

غيــــــــــيـــيــــــــيـــث .. أردت أن أصرخ به ... لكنني لم أستطع . كان الخوف قد شلني .. هل رأى الشاحنة ؟؟ ربما فعل . لكنه لم يتحرك . هل أدرك الموقف ? هل شل الخوف حركته ? ام لعله أراد أن .. لا أدري .. ولا أدري حتى إن كان السائق قد اطلق البوق . لا أدري .. لآادري . ما أذكره بدقة شديدة هو أن الشاحنة صدمت صاحبي فقذفته أمامها ثم تقافزت عجلاتها وهي تدهس الجسد مرة ومرتين .. لتستأنف بقية العجلات السير بشكل عادي بعد أن إنسحقت الجثة تماما على الاسفلت .

تجمدت للحظات .تجمدت للحظات, ثم تصرفت بنذالة تلقائية كأي محترف للغربة ترك رجولته عند حدود بلده . سرت مبتعدا ويدي تفتح علبة الدخان - علبته هو بالذات - اشعلت سيكارة وبدأت أسمم رئتي بدخان ردئ.

إبتعدت بهدوء وقلبي ينزف الما . . لم يعد بامكاني مساعدته .. ولم يعد بامكانه مساعدتي . ما جدوى تدخلي أنا الغريب المعدم ذو الجواز المليئ بالاختام الحمراء . سأوقع نفسي في مشاكل لاطاقة لي بها . حقيبته معلقة في رسغه .. قد يجدون الجواز وبضع مئات من الدولارات . لاشك أن السفارة ستسلمه الى اهله . أو .. ربما .. ما الفرق .. لقد إرتاح . إنتهت حكايته .

إبتعدت بهدوء وروحي تنتحب . كأن كتفه لم تكن تتكئ على كتفي قبل دقائق من الحادث . هل مات حقا ؟؟ . إبتعدت صامتا . إبتعدت بصمت وجسدي كله يريد أن يعوي .

أنا لست نادماالان الا على شيئ واحد . لو كنت قد أخذت السيكارة من بين أصابعه وسحقتها تحت حذائي . لو كنت قد فعلت ذلك .. ربما .. ربما كان ما يزال حيا يبحث معي عن مهرب (مضمون ) يقترح علينا طريقا لم يكشفها رجال الشرطة ..

والان .. وكلما دخنت سيكارة ? أتأمل طويلا ذلك التحذير المكتوب على جانب العلبة . أتأمله جيدا وأتساءل لماذا لايأخذ أحد هذا التحذير على محمل الجد ؟؟!!

لماذا لايصدق أحد أن السيكارة قد تكون قاتلة !!

 

ملاحظة

La nouvelle a obtenu le prix de l’Union des Ecrivains aux Emirats Arabes en 2005.

© la revue des ressources : Sauf mention particulière | SPIP | Contact | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0 | La Revue des Ressources sur facebook & twitter